فقه الطريق إلى الله ]فقه الطريق إلى الله
قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي
مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ
بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
(153)} [الأنعام: 153].
وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ
الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ
رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا
(70)} [النساء: 69 - 70].
الطريق إلى الله واحد لا تعدد فيه، وهو صراطه المستقيم الذي نصبه موصلاً من سلكه إلى مرضاته وجنته.
فالحق واحد، ومرجعه إلى واحد، وهو الله سبحانه.
وأما الباطل فلا ينحصر، بل كل ما سوى الحق باطل، وكما أنه كل طريق إلى الحق
فهو حق، فكذلك كل طريق إلى الباطل فهو باطل، فالباطل متعدد، وطرقه متعددة
متنوعة.
والطريق إلى الله واحدة جامعة لكل ما يحبه الله ويرضاه، وما يحبه الله
ويرضيه متعدد متنوع بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال، وكلها طرق
مرضاته، جعلها الله لرحمته وحكمته كثيرة متنوعة؛ لاختلاف استعدادات العباد
وقوابلهم.
فمن رحمة الباري سبحانه أنه لما اختلفت الاستعدادات تنوعت الطرق، ليسلك كل
امرئ إلى ربه طريقاً يقتضيها استعداده وقوته قبوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ
وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ
إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا
لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى
النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا
بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)}
[الحج: 78].
ومن هنا يعلم تنوع الشرائع واختلافها مع رجوعها كلها إلى دين واحد، مع وحدة المعبود ودينه.
فالأنبياء أولاد علات، دينهم واحد، وأمهاتهم شتى، فدين الأنبياء واحد، وشرائعهم متعددة.
والناس قسمان:
علية ... وسفلة.
فالعلية من عرف الله سبحانه، وعرف الطريق إليه، وسلكها قاصداً الوصول إليه،
وهذا هو الكريم على ربه الذي قال عنه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات: 13].
والسفلة من لم يعرف الله، ولم يعرف الطريق إليه، ولم يتعرفها، فهذا هو
اللئيم الذي قال الله فيه: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ
مُكْرِمٍ} [الحج: 18].
والناس متفاوتون في الأفكار والعقول، والقوة والأعمال:
فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يحب سلوكه إلى الله طريق العلم
والتعليم، قد وفر عليه زمانه مبتغياً به وجه الله، فلا يزال كذلك عاكفاً
عليه، حتى يصل من تلك الطريق إلى الله، ويفتح له فيها الفتح الخاص طلباً
ودراسة، وتعليماً وكتابة كما قال سبحانه: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ
بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ
(79)} [آل عمران: 79].
ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر، وقد جعله زاداً لمعاده، ورأس ماله
لمآله، فمتى فتر عنه أو قصر رأى أنه قد غبن وخسر، ومن الناس من يكون سيد
عمله وطريقه صلاة النوافل، فمتى قصر في ورده منها، أو مضى عليه وقت وهو غير
مشغول بها، أو مستعد لها، أظلم عليه وقته، وضاق صدره.
ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الإحسان والنفع المتعدي كقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وبذل أنواع الصدقات.
قد فتح الله له في هذا، وسلك منه طريقاً إلى ربه.
ومن الناس من يكون طريقه الصوم، فهو متى أفطر تغير عليه قلبه وساءت حاله.
ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن، وهي الغالب على أوقاته، وهي أعظمأوراده.
ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قد فتح الله له فيه، ونفذ منه إلى ربه.
ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ منه إلى ربه العمرة والحج.
ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق، وتجريد الهمة، ودوام المراقبة، ومراعاة الخواطر، وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة.
ومنهم جامع المنافذ، السالك إلى الله في كل واد، الواصل إليه من كل طريق،
فهو قد جعل وظائف عبوديته قبلة قلبه، ونصب عينيه، يؤديها أين كانت، ويسير
معها حيث سارت.
قد ضرب مع كل فريق بسهم، فأين كانت العبودية وجدته هناك: إن كان علماً
وجدته مع أهله، أو جهاداً وجدته في صف المجاهدين، أو صلاة وجدته مع
القانتين، أو ذكراً وجدته مع الذاكرين، أو إحساناً وجدته في زمرة المحسنين،
أو محبة أو مراقبة أو إنابة وجدته في زمرة المحبين المنيبين.
يدين بدين العبودية أنى استقلت ركائبها، ينفذ أوامر ربه حيث كانت، وأين كانت.
فهذا هو العبد الموفق السالك إلى ربه.
فإذا سلك العبد على هذا الطريق عطف عليه ربه فقربه واصطفاه، وأخذ بقلبه
إليه، وتولاه في جميع أموره، في معاشه ودينه، وتولى تربيته في جميع أحواله.
فإنه سبحانه القيوم، المقيم لكل شيء من المخلوقات، المطيع منها والعاصي، ونواصيهم جميعاً بيده.
فكيف تكون قيوميته بمن أحبه وتولاه وآثره على ما سواه، ورضي به من دون
الناس رباً وإلهاً، وهادياً ووكيلاً، وناصراً ومعيناً، فلو كشف الغطاء عن
ألطافه وبره وصنعه له من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم لذاب قلبه محبة له
وشوقاً إليه.ولكن حجب القلوب عن مشاهدة ذلك إخلادها إلى عالم الشهوات،
والتعلق بالأسباب، فصدت عن كمال نعيمها، وذلك تقدير العزيز العليم.
وإلا فأيُّ قلب يذوق حلاوة معرفة الله ومحبته ثم يركن إلى غيره، ويسكن إلى ما سواه، هذا ما لا يكون أبداً.
ومن ذاق شيئاً من ذلك، وعرف طريقاً موصلة إلى الله ثم تركها وأقبل على
إرادته وهواه، وشهواته ولذاته، وقع في آثار المعاطب، وجلب لنفسه الهموم
والأحزان، واستبدل بأنسه وحشة، وبعزه ذلاً، وذلك لأنه عرف طريقه إلى الله
ثم تركها ناكباً عنها، مكباً على وجهه.
فأبصر ثم عمي، وعرف ثم أنكر، وأقبل ثم أدبر، ودعي فما أجاب، وفُتح له فولّي ظهره الباب.
قد ترك طريق مولاه، وأقبل بكليته على هواه، فانحط إلى أسفل سافلين، وصار في
عداد الهالكين، وصارت روحه في وحشة من جسمه، وقلبه في ملال من حياته،
فيكون معذباً في الدنيا بتنغيص شهواته، وشدة اهتمامه بطلب ما لم يُقسَم له،
وإن قسم له شيء فحشوه الخوف والحزن، والنكد والألم.
فهو في هم لا ينقطع، وحسرة لا تنقضي، وحرص لا ينفد، وذل لا ينتهي .. هذا في هذه الدار.
وأما في البرزخ فأضعاف أضعاف ذلك، قد حيل بينه وبين ما يشتهي، وفاته ما كان
يتمناه، من قرب ربه، وكرامته، ونيل ثوابه، وأحضر جميع غمومه وأحزانه.
وأما في دار الجزاء فسُجن مع أمثاله من المبعدين المطرودين، ونار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى.
فمن أعرض عن الله بالكلية أعرض الله عنه بالكلية، ومن أعرض الله عنه لزمه الشقاء والبؤس.
فإن الرب سبحانه إذا أعرض عن جهة دارت بها النحوس، وأظلمت أرجاؤها، وصارت
مأوىً للشياطين، وهدفاً للشرور، ومصباً للبلاء، فالمحروم كلالمحروم من عرف
طريقاً إلى ربه ثم أعرض عنها، وانصرف بجملته إلى تحصيل الأغراض والشهوات،
عاكفاً على ذلك ليله ونهاره.
وطوبى لمن أقبل على الله بكليته، وعكف عليه بإرادته ومحبته، فإن الله يقبل عليه بتوليه ومحبته، وعطفه ورحمته.
وإن الله عزَّ وجلَّ إذا أقبل على عبد استنارت جهاته، وأشرقت ساحاته،
وتنورت ظلماته، وظهرت عليه آثار إقباله، من بهجة الجلال، وآثار الجمال،
وتوجه إليه أهل الملأ الأعلى بالمحبة والموالاة؛ لأنهم تبع لمولاهم، فإذا
أحب سبحانه عبداً أحبوه، وإذا والى ولياً والوه.
فيحبه الله ... وأهل السماء ... وأهل الأرض.
فيا سعادة من ظفر بمحبة مولاه .. وأقبل عليه بأنواع كرامته، ولحظه الملأ
الأعلى وأهل الأرض بالتبجيل والتكريم و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ
مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4].