النورسي.. رجل أحيا الله به أمة قلة قليلة تلك التي تعرف شيئاً ذا بال عن الشيخ المجاهد بديع الزمان النورسي، وهو من هو علماً ومكانة في تاريخ تركيا الحديثة التي شهدت تطورات خطيرة في القرن العشرين، وما تزال آثاره حتى الآن يتفاعل معها المجتمع التركي المعاصر.
اسمه الحقيقي (سعيد) ولقَّبه أهل زمانه "بديع الزمان" اعترافاً من أهل العلم بذكائه الحاد وعلمه الغزير واطلاعه الواسع، ولإبداعه في تفسير القرآن الكريم وتفوقه على أقران زمانه من العلماء.
دافع النورسي عن الاسلام بكل ما أوتي من قوة، فلما لم يجد آذانا صاغية في ظل انبهار الأتراك آنذاك بالحضارة الأوربية، عكف على التأليف وكانت كتبه وأفكاره هي النبراس لأهل تركيا، وخرج من تحت أكناف هذا الرجل أجيال متعاقبة تحمل هم العودة للإسلام.
نشأة متميزة:
بدت عليه أمارات الفطنة والذكاء منذ طفولته، ولمّا دخل (الكُتَّاب) وتتلمذ على أيدي المشايخ والعلماء بهرهم بقوة ذاكرته، وبداهته، وذكائه، ودقّة ملاحظته، وقدرته على الاستيعاب والحفظ، الأمر الذي جعله ينال الإجازة العلمية وهو ابن 14 سنة بعد أن تبحّر في العلوم العقلية والنقلية بجهده الشخصي، فقد حفظ عن ظهر غيب، ثمانين كتاباً من أمّهات الكتب العربية، كما حفظ القرآن الكريم في وقت مبكر من حياته الخصبة الحافلة.
عكف على دراسة العلوم العصرية، أو العلوم الكونية الطبيعية (رياضيات، وفلك، وكيمياء، وفيزياء، وجيولوجيا) والجغرافيا والتاريخ والفلسفة الحديثة وسواها من العلوم، حتى غدا عالماً فيها، ومناظراً فذاً للمختصين بها، وصار له رصيد ضخم من المعلومات، مكّنه من الانطلاق من مرتكزات علمية سليمة.
في عام 1894م قرأ خبرا في الصحف المحلية التركية زلزل كيانه، أن وزير المستعمرات البريطاني (غلادستون) وقف في مجلس العموم البريطاني، وهو يحمل المصحف الشريف بيده، ويهزّه في وجوه النواب الإنكليز، ويقول لهم بأعلى صوته: "ما دام هذا الكتاب موجوداً، فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان، لذا، لا بدّ لنا من أن نعمل على إزالته من الوجود، أو نقطع صلة المسلمين به".
فصرخ العالم الشاب سعيد النورسي من عمق أعماقه: "لأبرهننّ للعالم أجمع، أن القرآن العظيم شمس معنوية لا يخبو سناها، ولا يمكن إطفاء نورها".
ورأى النّورسيُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وسأله أن يدعو الله له: أن يفهّمه القرآن، وأن يرزقه العمل به، فبشّره الرسول الكريم بذلك، قائلاً له: "سيوهب لك علم القرآن، شريطة ألا تسأل أحداً شيئاً"، وأفاق النورسيّ من نومه، وكأنما حيزت له الدنيا.. بل، أين هو من الدنيا، وأين الدنيا منه.. أفاق وكأنما حيز له علم القرآن وفهمه، فقد آلى على نفسه ألا يسأل أحداً شيئاً، استجابة لشرط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وهبه الله ما تمنى، وصار القرآن أستاذه ومرشده وهاديه في الدياجير التي اكتنفت تركيا.
- كان النورسي يحب أعالي الجبال، كما كان يحب أعالي الأشجار الباسقة الشاهقة، وكان يفضل الصلاة على الصخور المرتفعة، ويقول لتلاميذه: "لو كنتُ في قوة شبابكم هذا، لما نزلت من هذه الجبال".
ميراثه العلمي:
ترك النورسي موسوعة إيمانية ضخمة تسد حاجة هذا العصر، وتخاطب مدارك أبنائه، وتدحض أباطيل الفلاسفة الماديين، وتزيل شبهاتهم من أسسها، وتثبت حقائق الإيمان وأركانه بدلائل قاطعة، وبراهين ناصعة، جُمعت في ثمانية مجلدات ضخام، هي:
- الكلمات
- المكتوبات
- اللمعات
- الشعاعات
- إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز
- المثنوي العربي النوري
- الملاحق
- صيقل الإسلام
وقد تُرجمت إلى اللغات العربية، والإنكليزية، والألمانية، والأردية، والفارسية، والكردية، والفرنسية، والروسية وغيرها.
إن كليات رسائل النور لَتُبين بما لا يقبل الشك أو الظن؛ كفاءة الأستاذ بديع الزمان وبروزه وتفوقه في كل فن من فنون الحكمة للعلوم الإسلامية:
فإشارات الإعجاز في مظان الإيجاز مثلاً يبين قدرته كمفسر بارع، والمثنوي العربي النوري كأديب حكيم، والمناظرات كفقيه واعظ، ورسالة الحشر كفيلسوف عبقري، والمكتوبات كداعية بصير، والشعاعات كعالم لامع، والمعجزات الأحمدية وأصول فهم الأحاديث كمحدث يبز أقرانه المحدثين في زمانه واكثر، وفي تفاريق رسائله الأخرى كعلاّمة رائد في علم الكلام لا يشق له غبار.
أما كتابه الابرع والألمع "سوزلر: الكلمات" فيظهره كأستاذ متربع على عرش الولاية بكل لياقة وجدارة تماماً، كما كان القدر قد أجلسه على شجرة الدلب المنتصبة كالعملاق ذات الأفرع الثلاثة الشامخة السامقة كأنها معراج ممتد عند قاعدة بوابة السماء أمام بيته المتواضع ثمانية أعوام كاملة في قرية "بارلا!".
كان يقول لزائريه أو الذين يرغبون في زيارته: "كل رسالة من رسائل النور تطالعونها، تستفيدون منها فوائد أفضل من مواجهتي بعشرة أضعاف..".
وكان قد طلب أكثر من مرة من تلاميذه طلبة النور، ألا يربطوا الرسائل بشخصه الضعيف، فيحطوا من قيمتها، لأن للإنسان أخطاء وعيوبا قد سترها الله عليه.
كما كان يدعو تلاميذه إلى عدم التعلق به، لا في حياته، ولا بعد مماته، فذلك له أضرار جسيمة على الدعوة.
ومن أعجب مزايا الأستاذ العظيم سعيد النورسي التي انفرد بها من بين فطاحل العلماء وحتى من طبقة المجددين المشاهير، أنه لم يكن لديه لا في السفر ولا في الحضر، مراجع أو مكتبات يعتمد أو يستند عليها في فتاويه ومواقفه وإرشاداته، بل كان لا يملك لديه على وجه الأرض غير القرآن الكريم وما يضم في طوايا صدره من مكتبة المتون التي بلغت على حد قول أحد تلاميذه الأوفياء "مصطفى صنغور" نيّفاً وثمانين كتاباً من أمهات المصادر، موضوعة فوق رفوف ذاكرته الخارقة، ومسجلة على شرائط قلبه العبقري باقتدار نادر رغم حياته العاصفة المحفوفة بالأهوال والمخاوف والمخاطر والشدائد، حتى لكأنه كان هو وحده يحمل كوارث العالم الإسلامي الجريح على كاهله مع شدة ضعفه وعظم عجزه، فكان أن صار بفضل الله وحكمته سر قوته وسر نصره وسر عظمته في تبليغ رسالته وتحقيق مهمته بنجاح مدهش جدير بالدراسة والاعتبار لدى مراقبي الحركات الإسلامية المعاصرة.
هذا ولئن كان الشيخ عبدالقادر الكيلاني كما لقّبوه في عصره بالباز الأشهب في قمم الإرشاد والهداية؛ فان الأستاذ سعيد النورسي عند محبيه هو العندليب القرآني الأمثل في سماء الدعوة عبر أجيال قافلة المجددين.
كلمات ليست كالكلمات:
لعل من أصدق ما يمكن أن يوصف به الأستاذ بديع الزمان الذي ينسجم ويوافق روح شخصيته وروح رسائله معاً، هو أنه: الرائد الجماهيري المسلم الجسور العارف الذي عانى ما عانته وشقي ما شقته وعاش ما عاشته لحظة بلحظة وذاق مرارته قطرة بقطرة.
فهو لذلك خير من يمثل روح الجماهير المسلمة التي انحدرت بعد سقوط الخلافة ثم أخذت تنهض نهوضها بتثاقل وكفاح وعناد، بل وعبقرية وشجاعة وحكمة نادرة في تاريخ الحركات المعاصرة للدعوة الإسلامية.
وهو برسائله المائة والثلاثين ظاهرة فكرية وعلمية في عالم الحضارة تستحق الدراسة كل الدراسة من لدن العاملين الخبراء العادلين، فقد تكون أعجوبة الأعاجيب في نوعها وأسلوبها ومنهجها وأبعادها، ومن ثم في أثرها وثمارها، ما تؤذن ببشائر الخير العظيم بعد هجمة هذا الشر المستطير الذي يعم المعمورة اليوم شرقاً وغرباً، وتؤذن بطلائع فجر جديد للعالم الإسلامي المنكود البائس، بابتكار نهجها السليم الحكيم العظيم.
- إن هذا الرجل الصالح شخصية حضارية مرموقة واسعة فاعلة متحركة متنوعة جذابة، قلما نجد لها نظيراً أو بديلاً في تاريخ رجال الفكر والدعوة والتربية والسياسة، لذا تتسع دراستها لجوانب شتّى.. فهو مثلاً شيخ الشيوخ في زمانه ولا يشبه الشيوخ المعروفين في عالم المتصوفة، وهو عالم العلماء في عصره ولا يشبه العلماء التقليديين في دنيا العلم؛ بل هو نسيج وحده وفريد دهره وأعجوبة أعاجيب الأيام يحمل أرفع وسام الشرف في خدمة القرآن وفن تبليغه البليغ الثائر الحكيم ما يستحق بحق أن يلقب بـ"بديع الزمان".
- إنه شخصية عملاقة فذة عبر أجيال من القرون: فهو رجل وكتاب معاً، أي أن رسائله كأنها هو، وهو كأنه رسائل النور. وهذه لمحة أو لميحة أخرى من أنوار حقيقة قولة أُمنا الصديقة "عائشة" رضي الله عنها لمّا سُئلت عن خُلق الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، فقالت كلمتها المشهورة الخالدة: "كان خلقه القرآن" عمقاً وسعة وارتفاعاً.
- إن أستاذنا بديع الزمان هذا، خليط عجيب ومزيج نادر في عالمنا الحاضر نحن خاصة.. فهو عالم، لكن ليس كالعلماء، وهو صوفي، لكن ليس كالمتصوفين، وهو أديب، لكن ليس كالأدباء، وهو مفكر، لكن ليس كالمفكرين، وهو داعية، لكن ليس كالدعاة، وهو مرب، لكن ليس كالمربين، وهو قائد، لكن ليس كالقادة.. وأخيراً فهو سياسي، ولكن ليس كالسياسيين.
- وهو بمفرده دائرة معارف خاصة في العلم والأدب والتصوف والفكر والدعوة والتربية والقيادة والفقه والسياسة. ففيه من كل فن نصيب وافر، وحظ سافر، ولكنه فوق ذلك فهو تكوين مركب وأمشاج منسق ونسيج متفرد، ومن ثمّ فقد حُقّ له من هنا أن يسمي نفسه ببدعة الزمان، وحُقَّ للناس أن يلقبوه ببديع الزمان.
لذلك يمكننا أن نقول من جملة ما نقول عنه أنه عالم بديع، وأديب بديع، وولي بديع، وفيلسوف بديع، ومربّ بديع، وداعية بديع، بل وإمام بديع كذلك.
هذا هو بديع الزمان كما عرفناه من آثاره ورسائله وحياته ومدرسته ومناهجه وطلابه ودراسات المحققين البارزين فيه وشهادة الشاهدين له من الذين عاصروه وراقبوه سواء على صفحات الوثائق أو على لوحات الرقائق.
فهو خادم وإمام، وهو هو دائماً: بديع، بديع، بديع.. أينما وقفت تنظر إليه.
- لقد كان النورسي أمَّة في رجل، ربَّى تلاميذه بالقدوة، وحياته كانت أكبر كرامة.. إنه رجل عصر المصائب والبلايا والمهالك -كما قال عن نفسه- وهو عصرنا، وقد هيأ الأدوية الناجعة للجروح الإنسانية الأبدية، وقدَّمها إليها خلال رسائله وكتبه التي هي من نور القرآن العظيم.
ها هو ذلكم الأستاذ العبقري الملهم الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي. وإن نظرة شاملة واعية للتاريخ لكفيلة أن يلمس المرء أو القارئ الجيد بنفسه هذه الحقيقة بأجلى صورها، وأظهر ملامحها.
خاتمة:
في الأول من مارس عام 1877م كان «قوس البداية» يفتتح أولى خطوات مسيرة الداعية الإسلامي، والعلامة التركي، بديع الزمان النورسي، أحد أبرز علماء الإصلاح الديني والاجتماعي ودعاة الوسطية في العصر الراهن لا فى تركيا وحدها، لكن في العالم الإسلامي بأسره.
وفي الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 1960م جاء «قوس الرحيل» لينطفئ سهم بارق من سهام الأمة الإسلامية، ورمز من رموز الوسطية والاعتدال، والنضال من أجل إعلاء قيم الإسلام الحقيقية.
وما بين القوسين كرس الإمام النورسي حياته للقيام بمشروعٍ سماه "إنقاذ الإيمان وخدمة القرآن"، يقوم على تحويل إيمان الناس من مجرد إيمان تقليدي موروث إلى إيمان تحقيقي مشهود.
كما يقوم مشروعه في شقه الآخر على تبيان حقائق القرآن، وسماحة ووسطية الإسلام، وكان شعاره «الدين ضياء القلوب أما العلوم الحديثة فهي نور العقول».
إن حياة الإمام النورسي لم تكن إلا ملحمة من الوقائع والأحداث التي وضع جميعها في خدمة القرآن العظيم والأمة الإسلامية، لا من أجل منصب زائل أو كرسي مخضب بدماء الأبرياء، بل كانت غايتها النهائية بث اليقظة وإعادة الحياة ومبادرة الفعل للأمة الإسلامية بعد طول رقاد.
وكم نحن في أشد الحاجة الآن، والآن بالذات لمثل هذه المسيرة، ومثل تلك الغاية، ومثل ذلك الإمام.
وأخيراً:
فهو نسيج وحده، قطب أقطاب، وفارس فرسان، يجمع في سر أسراره: روح الإمام الغزالي في تجديد علوم الدين، وبطولة صلاح الدين في قهر غارات الصليبيين الجدد، وعبقرية الشيخ عبدالقادر الكيلاني في تصنيع الرجال الأخيار، وسحر جلال الدين الرومي في إظهار حقائق المعجزة المعنوية للبلاغة القرآنية، وحكمة الإمام أحمد الفاروقي السرهندي في خطوات الدعوة وسياستها الشرعية البعيدة النظر.
إن شخصية هذا الإمام المجدد نعمة ربانية مهداة، وبشرى عظيمة منجّاة بما أجرى الله على يديه من تبيان منهج دقيق عميق.
نحن بحاجة فعلية الى أمثال هذا الرجل في ظل تلك الهجمة التغريبية الالحادية القادمة نحو الوطن العربي والاسلامي ككل وليس تركيا فحسب.
لقد كان الإمام بديع الزمان النورسي رحمه الله من العلماء المجددين الذين كان تأثيرهم بالغا في المحافظة والذود عن الذات الحضارية المسلمة في القرن العشرين، وقد قدر له أن يشهد تغيرات حضارية هائلة مست بالأخص تركيا بلده الذي كان لتوه يمثل خلافة المسلمين؛ لتداعي أركان هذه الخلافة مع رياح التتركة والعلمنة مع مصطفى أتاتورك 1924م؛ فكان أن حاول التأثير والتوجيه والبناء والصمود، وقد تحمل لمواقفه الويلات والمحن شأن كل العلماء في التاريخ الانساني. لكن الجهد آتى أكله ثمرة يانعة يذكرها له أهله ويشهدون له بها، ويستطيبها كل من مر بسيرته أو قرأ له، رحم الله علماء الأمة الذين أخلصوا دينهم لله.
فيا إخوة القرآن! ألا هاكم النموذج الأمثل للمنهج الإسلامي الأصيل فاتخذوه سبيلا خطوة خطوة، مرحلة مرحلة؛ تختصروا المسافات الطويلة، وتتفادوا الأزمات المعقدة، وتنجو من المؤامرات المحبوكة حبكاً ماكراً غادراً.
مصادر يمكن الرجوع اليها:
1- الإمام النورسي.. عبقرية الفهم -الأهرام العربي- السيد رشاد.
2- الإمام بديع الزمان سعيد النورسي -أمة كاملة في رجل- مجدد الاسلام في تركيا حيا وميتا -عبدالله الطنطاوي- موقع المجلس اليمنى.
3- حول الأستاذ النورسي نفسه- منتديات رسائل النور- شبكة رسائل