نَصْرُ الأُمَّة في عُلُوِّ الهِمَّة الحقيقة الواضحة التي يصل إليها من يتأمل في الانتصارات الكبيرة التي حققها المسلمون عبر تاريخهم الطويل هي: أن نصر الأمة في علو الهمة، فقد انتصر الصحابة الكرام وهم قِلّة على جموع المشركين واليهود في جزيرة العرب بعلو الهمة، التي عبر عنها الصحابي الجليل عمير بن الحمام في معركة بدر، فعندما قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قُومُوا إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات وَالْأَرْضُ، قال عُمَيْرُ بن الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيّ:ُ يا رَسُولَ اللَّهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السماوات وَالْأَرْضُ؟! قال: نعم، قال: بَخٍ بَخٍ، فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ما يَحْمِلُكَ على قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟! قال: لَا والله يا رَسُولَ اللَّهِ إلا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ من أَهْلِهَا، قال: فَإِنَّكَ من أَهْلِهَا، فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ من قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قال: لَئِنْ أنا حَيِيتُ حتى آكُلَ تَمَرَاتِي هذه إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، فَرَمَى بِمَا كان معه من التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حتى قُتِلَ.
وبعلو الهمة قرر أبو بكر الصديق قتال المرتدين والروم في وقت واحد، وأصر على إنفاذ جيش أسامة الذي جهزه النبي صلى الله عليه وسلم لقتال الروم، بالرغم من كثرة المرتدين وخطرهم، وخوف كبار الصحابة واعتراضهم، وظهرت همته العالية وهو يقول:” والله لَأُقَاتِلَنَّ من فَرَّقَ بين الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فإن الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، والله لو مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ على مَنْعِهَا”، وعندما قال له عمر بن الخطاب:” يا خليفة رسول الله تألف الناس وارفق بهم”، رد عليه مُستنهِضاً هِمَّته:” أجبَّارٌ في الجاهلية خوَّارٌ في الإسلام؟! إنه قد انقطع الوحي، وتمّ الدين، أيُنقصُ وأنا حيّ؟؟!”.
وبأصحاب الهمم العالية من القادة والجنود قاتل المسلمون إمبراطوريتي الفرس والروم في وقت واحد، وانتصروا عليهم في كل المعارك، بالرغم من الفرق الشاسع بينهم وبين أعدائهم في العَدَدِ والعُدَد، فقد هزم ثلاثة وثلاثون ألفاً من المسلمين أكثر من مائة ألف من الروم في معركة أجنادين سنة 13هـ، وهزم ستة وثلاثون ألفاً من المسلمين أكثر من مائتي ألف من الروم في معركة اليرموك سنة 15هـ، وعبر القادة عن هممهم العالية، قبيل معركة اليرموك، فبعث عمر بن الخطاب يحرض أبا عبيدة والمؤمنين ويعلي هممهم ويقول:” فلا تهولنك كثرة ما جاء منهم، فإن الله منهم بريء، ومن برئ الله منه كان قمناً{جديراً} ألا تنفعه كثرة، وأن يكله الله إلى نفسه ويخذله، ولا توحشنك قلة المسلمين، فإن الله معك، وليس قليلاً من كان الله معه”، ورفض خالد بن الوليد مقترحاً قدمه البعض خوفاً على المسلمين من الهزيمة أمام جموع الروم الهائلة بالانسحاب جنوباً إلى الصحراء، وقال:” أرى والله إن كنا نقاتل بالكثرة والقوة هم أكثر منا وأقوى منا وما لنا بهم إذن طاقة، وإن كنا نقاتلهم بالله ولله فما إن جماعتهم ولو كانوا أهل الأرض جميعاً أنها تغني عنهم شيئاً”.
وأبلى أصحاب الهمم العالية بلاء حسناً، فتكسرت في يد خالد تسعة أسياف، وقال عكرمة بن أبي جهل مستنهضاً همته وهمم من حوله:” قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل موطن، وأفر منه اليوم؟ من يبايع على الموت”؟ فبايعه أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فاستبسلوا أمام فسطاط خالد، حتى أصيبوا جميعاً بجراح خطيرة، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من برئ.
وبلغ علو الهمة عند النساء المسلمات في معركة اليرموك أنهن لم يكتفين بمداواة الجرحى، بل شاركن بأنفسهن في القتال وأبلين بلاء حسناً، حتى أن أَسْمَاءَ بنتَ يَزِيدَ بن السَّكَنِ الأنصارية قَتَلَتْ يوم الْيَرْمُوكِ تِسْعَةً مِنَ الرُّومِ بِعَمُودِ فُسْطَاطِهَا.
وبلغ علو الهمة عند الصحابة الكرام أن خالد بن الوليد وعياض بن غنم طلبا مدداً ليتمكن كل منهما من مجابهة جيش الفرس الكثيف على جبهته، فأرسل أبو بكر لخالد القعقاع بن عمرو التميمي، ولعياض عبد بن عوف الحميري، وعندما قيل له كيف تمد خالداً برجل واحد، قال:” لا يهزم جيش فيهم مثل هذا”، ورجحت بصاحبيِّ الهمة العالية كفة المسلمين في الجبهتين وانتصروا على الفرس.
ودفعت الهمة العالية المستمدة من الإيمان عمرو بن العاص إلى الإلحاح على الخليفة عمر وإقناعه بأهمية فتح مصر، فقال:” يا أمير المؤمنين ائذن لي في المسير إلى مصر فإنك إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعوناً لهم وهي أكثر الأرضين أموالاً وأعجز عن حرب وقتال”، وكان عمر متخوفاً لاتساعها، ولاحتوائها على النواة الصلبة للجيش الرومي. وبثلاثة آلاف وخمسمائة مجاهد فقط من أولي العزم والهمة العالية، نجح عمرو وجنوده في فتح مصر، وعندما أتموا فتحها سنة 20هـ، لم يتوقفوا، إذ لم يبح عمرو لنفسه أن يخلد إلى الراحة، ويستمتع بحكم مصر الغنية، وإنما دفعته همته العالية للتوجه بجنده نحو برقة(ليبيا) فافتتحها، ومضى إلى طرابلس فافتتحها سنة 22هـ، ثم عزم على فتح أفريقيا(تونس)، فبعث إلى الخليفة يستأذنه، ويرغبه، ويهوِّن عليه فتحها ويقول:” إن الله قد فتح علينا طرابلس، وليس بينها وبين أفريقيا إلا تسعة أيام، فإن رأى أمير المؤمنين أن يفتحها الله على يديه فعل”، لكن عمر خاف على المسلمين وكتب إليه:” لا إنها ليست بإفريقيا، ولكنها المفرقة، غادرة، مغدور بها، لا يغزوها أحد ما بقيت”. لقد حقق عمرو هذه الفتوحات الكبيرة، وحافظ على همته العالية بالرغم من أنه قد قارب السبعين من العمر.
وبأصحاب الهمم العالية انتصر عشرون ألفاً من المسلمين يقودهم عبد الله بن سعد بن أبي السرح على مائة وعشرين ألفاً من البيزنطيين يقودهم جريجوريوس سنة 28هـ في معركة سبيطلة في الشمال الأفريقي، وتمكن فيها عبد الله بن الزبير من قتل جريجوريس.
وبأصحاب الهمم العالية بنى عقبة بن نافع في ولايته الأولى على المغرب مدينة القيروان سنة 55هـ، وفي ولايته الثانية عزم على فتح المغرب كلها، فجمع أولاده وأهله وقال مودعاً:” إني قد بعت نفسي من الله تعالى، وعزمت على من كفر به حتى أُقتل فيه، وأُلحق به، ولست أدري أتروني بعد يومي هذا أم لا، لأن أملي الموت في سبيل الله”، وانطلق وجنوده مجاهدين في سبيل الله، حتى وصلوا إلى المحيط الأطلسي، فخاضه عقبة بحصانه، ورفع رأسه إلى السماء وقال:” اللهم إنك تعلم أني قد بلغت المجهود، ولو أني أعلم أن خلف هذا البحر بلاداً لخضته، أقاتل في سبيلك، حتى لا يبقى على وجه الأرض من يكفر بك”.
وأرسل موسى بن نصير طارق بن زياد على رأس سبعة آلاف مجاهد لفتح الأندلس، وعندما علم طارق أن ملك القوط لذريق قد خرج إليه بنحو مائة ألف، بعث إلى موسى يقول:” الغوث الغوث”، فأمده موسى بخمسة آلاف، ورسالة يقول فيها:” لا يهزم اثنا عشر ألفاً من قلة، إذا صبروا وصدقوا”، وتمكن أولو العزم والإيمان والهمم العالية من إلحاق هزيمة ساحقة بجيش القوط الكبير سنة 92هـ في معركة شذونة التي استمرت ثمانية أيام، ولم يكتف المسلمون بهذا النصر العظيم، بل واصلوا اقتحامهم للأندلس، وبدون أن يصلهم مدد جديد، إلى أن تمكنوا بعد نحو سنة من القتال في هذا البلد الكبير المزدحم بالأعداء من فتح العاصمة طليطلة في قلب الأندلس.
وبلغت الهمة بوالي الأندلس موسى بن نصير الذي لحق بعد سنة بطارق، والذي بلغ من العمر ستة وسبعين عاماً، أن يكون في مقدمة المقاتلين، وأن لا يقتصر هدفه على فتح الأندلس، بل يعزم على فتح أوروبا والقسطنطينية، ثم يعود من هناك إلى دمشق، وعندما وصلت خطته إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك خاف على المسلمين وأمره بالتوقف.
وبعلو الهمة انتصر خمسة عشر ألفاً من المؤمنين نصراً مبيناً على ثلاثمائة ألف من الروم يقودهم الملك رومانوس، في معركة ملاذكرد سنة 463هـ بعد أن تبايعوا مع قائدهم السلطان السلجوقي ألب أرسلان على الموت في سبيل الله، وقد أُسر الملك، وحرر المسلمون به جميع أسراهم.
وبعلو الهمة حرر نور الدين محمود بن زنكي معظم الشام وفلسطين من الاحتلال الصليبي، فكان إذا حضر الحرب أخذ قوسين و تركشين و باشر القتال بنفسه، وكان يقول: “طالما تعرضت للشهادة فلم أدركها”، وبعد نجاته بأعجوبة من معركة البقيعة سنة 558هـ التي استشهد فيها كثير من المسلمين بسبب مفاجأة الصليبيين لهم، قال: ” والله لا أستظل بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام”، وعرض الصليبيون عليه الصلح فرفض، وكان انتقامه منهم رهيباً في معركة حارم في11 اغسطس1164م، إذ قتل منهم عشرة آلاف وأسر عشرة آلاف أو أكثر، وكان بين الأسرى عدد من كبار أمرائهم وقادتهم.
وبعلو الهمة انتصر صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين الفاصلة، وواصل القتال حتى حرر القدس من الصليبيين سنة 583هـ ، ولم يكتف بهذا الإنجاز الكبير، بل سار إلى سواحل الشام لتطهيرها، وروى المؤرخ المرافق لصلاح الدين ابن شداد أنه سأله أثناء حصاره لعكا عن سبب وجومه، فقال معبراً عن همة في القمة:” في نفسي أنه متى يسر الله تعالى فتح بقية السواحل قسمت البلاد، وأوصيتُ وودعتُ، وركبتُ هذا البحر إلى جزائرهم، أتبعهم فيها حتى لا أُبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت”.
وبعلو الهمة قابل حاكم مصر قطز تهديد المغول الذين اجتاحوا العالم، واحتلوا بغداد والشام، وعزموا على احتلال مصر، فقال لأمرائها ووجهائها عندما أشاروا عليه بالهروب من وجههم:” والله لو لم أجد من أقاتلهم به إلا نفسي لقاتلتهم بنفسي”، فعلت هممهم، وقرروا الخروج معه للقتال، وكان النصر الساحق على المغول في عين جالوت سنة 658هـ، وكان التحرير لفلسطين بعد خمسة أشهر فقط من احتلال المغول لها.
وعلى درب الأجداد سار الأحفاد في فلسطين، فبعلو الهمة تمكن المجاهدون من إلقاء الرعب في قلوب اليهود بعملياتهم الاستشهادية، وبعلو الهمة تمكن المحاصَرون في غزة وبطرق بدائية من صنع صواريخ متطورة دكت قلب الكيان الصهيوني، وبعلو الهمة استطاع المجاهدون خرق الأرض وخطف الجنود وتحرير معظم الأسرى,
وبعلو الهمة نجح المجاهدون في إفشال حربين كبيرتين مدمرتين شنهما الصهاينة على غزة الأبية ذات الهمة العلية.
وكلنا يقين بأن همة المؤمنين ستبقى علية قوية لا تلين حتى تحرير كل فلسطين.